في زمنٍ كان الحديث فيه عن فكرة كسر نمط التسوق التقليدي وشراء المنتجات عبر الإنترنت بمثابة الصدمة والمجازفة الخاسرة بالنسبة للعديد من رجال الأعمال والمستثمرين، راهن رائد الأعمال الأميركي جيف بيزوس على رؤيته بعيدة المدى وأقدم على إعادة تشكيل سوق التجزئة في العالم وفق استقرائه للمستقبل.
قبل 25 عاماً في 1994، كان بيزوس بعقده الثلاثين، عندما رأى حياةً سيستطيع فيها الناس شراء ما يريدون من سلع ومنتجات وهم جالسون بمنازلهم أمام شاشة حواسيبهم، يفتحون القوائم الإلكترونية ويتصفحون العديد من المنتجات، وبنقرة يؤمّنون متطلباتهم، فشق الطريق أمام شركته التي بدأت متجراً لبيع الكتب وستصبح إمبراطوريةً لتجارة التجزئة عبر الإنترنت، وتحمل اسم أطول أنهار العالم “أمازون”.
واجه بيزوس العديد من التحديات، إذ تخوف كبار المستثمرين آنذاك من تمويل مشروعه، خشية الخسارة، لكن الشاب الثلاثيني لم يتراجع على الرغم من أنه مر بأوقات كان ممكناً فيها اندثار كل شيء دونما نجاح والعودة إلى نقطة البداية، واستمر بالرهان على رؤيته البعيدة والمبنية على ثقته بأن عالم الإنترنت في نمو وتوسع، فجمع نحو 100 ألف دولار من أمواله وعائلته، وأطلق “شركة أمازون” بشكل فعلي في 1995.
واتخذ مؤسس “أمازون” قراراً بالمحاولة حتى يتجنب الندم فيما بعد، وحصل ما يصبو إليه، وبعد مرور شهرٍ واحد من تدشينها عام 1995، شحنت شركته طلبيات إلى 50 ولاية أميركية و45 دولة حول العالم. ولم تمر خمس سنوات حتى قفزت حسابات عملاء “أمازون” من 180 ألف دولار إلى 17 مليوناً، كما ارتفعت المبيعات بسرعة من 511 ألف دولار إلى أكثر من 1.6 مليار دولار.
وفي 1997، تغيرت المعادلة ورؤية بيزوس كسبت الثقة وجذبت كبار المستثمرين في مرحلة الاندفاع نحو فكرة الشراء عبر الإنترنت، الموجة التي خلقت حالةً جديدة لدى الناس، وحقق صاحب “أمازون” أرباحاً قدرت بـ54 مليون دولار ليتحول بيزوس، الذي كان يساعد ذات يوم في تعليب طلبيات الكتب، إلى أحد أُثرى أغنياء العالم.
وفي 1999، اختارته “مجلة تايم” الأميركية كأحد أصغر مرشحيها فيما يعرف “بشخصية العام”، ولقبته بـ”ملك التجارة عبر الإنترنت”، وفي 2019، تصدر تصنيف “مجلة فوربس” كأغنى رجل في العالم بثروة تبلغ 131 مليار دولار.
واعتمد بيزوس القيادي الحاسم في إدارة “أمازون” على الاستراتيجية طويلة المدى والقائمة على إنفاق المال في سبيل الربح، كتخفيض الأسعار وتقديم الشحن بالمجان، وكذلك العمل سنوات لتصميم وتطوير أجهزة مثل “كيندل” للقراءة الإلكترونية، لكن دون إغفال سياسة الادخار، ومن ذلك إلزام الموظفين بدفع مقابل ركن سياراتهم، ومفاصلة المورّدين، ورفض الجهود المبذولة لقيام تكتلات عمالية في فروع الشركة، وتفادي الضرائب قدر الإمكان.
وتحققت رؤية بيزوس عام 1994، وأصبحت “شركة أمازون” ثاني شركة رأس مالها يتخطي تريليون دولار في العالم في سبتمبر (أيلول) 2018 بعد “شركة أبل” بفارق بسيط، متحولة من موقع تجاري صغير لبيع الكتب المستعملة إلى شركة عالمية عملاقة للتجارة في كل شيء.
وتخطى طموح مؤسس “أمازون” الأرض والعالم الافتراضي، ووصل للفضاء، إذ يطمح عبر شركته الفضائية “بلو أريجن”، لنقل الأشخاص والمعدات إلى القمر في 2024، كما يرى أن على البشر الذهاب للفضاء إذا كانوا يريدون الحصول على حضارة متطورة بمستوى كبير، إضافةً إلى أنه يبني خطة لصنع مبتكرات كالمعالجات الدقيقة في الفضاء، ثم إعادة تلك الأشياء المصنعة والمعقدة إلى الأرض، بحيث تبقى الأرض مخصصة للسكن لا غير.
وعلى الرغم من أن أغنى رجل في العالم يدرك كون خطة الاستثمار في الفضاء، تحتاج إلى أجيال عدة ومئات السنين لتصبح واقعاً، لكنه يعمل على تطوير التكنولوجيا التي تجعل ذلك ممكناً في أقرب وقت عبر “شركة بلو أريجن”، ويختزل بيزوس استراتيجيته بعيدة المدى وثقته في نجاحها بقوله: “إذا عدت إلى الوراء في غضون مئة عام وأخبرت الناس اليوم أنك ستكون قادراً على شراء تذكرة طيران وتطير في جميع أنحاء العالم على متن طائرة لكانوا يعتقدون أنك مجنون. لكن هذا هو نوع التغيير الذي يمكن أن يحدث خلال 100 عام أو أقل”.