أنور كونغو: قتل الآلاف بوحشية ورحل..
أنور كونغو: قتل الآلاف بوحشية ورحل دون أن يحاكم
تفاصيل هذه القصة قد تكون مؤلمة للبعض
جلس صديق يتابع القاتل المحترف، أنور كونغو، وهو يؤدي رقصة تشا تشا تشا. وقبل هذا المشهد بعدة دقائق، فوق أحد الأسطح في أندونيسيا، كان يمثل طريقته المفضلة في قتل ضحاياه. كان يستخدم سلكا معدنيا طويلا لخنق الضحايا، إذ أن ضربهم حتى الموت كان يتسبب في ضجيج كبير.
هذا الرجل النحيل، ذو الشعر الأبيض، قتل حوالي ألف شخص، رغم أن التقديرات تشير إلى أكثر من ذلك بكثير.
وقال بوجه ضاحك: “حاولت نسيان كل ذلك، عن طريق الرقص، والشعور بالسعادة، والقليل من الكحول والماريوانا” ثم بدأ في الغناء.
وكان هذا أحد أكثر المشاهد الصادمة في فيلم “قانون القتل”، الفيلم الوثائقي الذي رُشح لجائزة أوسكار عام 2012، وسلط الضوء على واحدة من مجازر القرن العشرين التي لم يسلط عليها الضوء كثيراً.
خلال عامي 1965 و1966، قُتل 500 ألف شخص على الأقل في أندونيسيا في خضم أزمة سياسية. فبعد محاولة انقلاب فاشلة، بدأ الجيش حملة تستهدف الشيوعيين في البلاد.
ويروي “قانون القتل” حياة كونغو، الذي كان عضوا في كتيبة قتل قتلت المئات ممن يشتبه بانتمائهم لليسار، وطلب منه إعادة تمثل عمليات القتل أمام الكاميرا.
وتوفي كونغو في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن 78 عاما
نشأ كونغو بالقرب من حقل للنفط، حيث عملت أسرته قرب مدينة ميدان في الشمال. وكانوا ميسورين إلى حد كبير، وعارضوا الاستقلال عن هولندا عام 1945.
ترك كونغو الدراسة وهو في الثانية عشرة، وانخرط في عالم الجريمة السري في ميدان. في البداية كان يتسكع أمام أحد دور السينما في المدينة. وعمل هو وأصدقاؤه في إعادة بيع التذاكر بمقابل مادي، وكانت السينما مقر أنشطتهم.
ولم يمض الكثير من الوقت حتى تطور النشاط الإجرامي لكونغو وعصابته. فمارسوا البلطجة ضد المحال الصينية المحلية وجمعوا أتاوات مقابل الحماية، وعملوا في التهريب والرهانات غير القانونية.
كما عمل كونغو وصديقه، آدي ذو القادري، كقتلة محترفين مأجورين.
ويقول جوشوا أوبينهايمر، مخرج الفيلم الذي أصبح مقربا من كونغو، إن “المحاولة الأولى فشلت بشكل ذريع. حاولوا قتل شخص بقطعة من فاكهة دوريان. وبالتأكيد لم تفلح هذه الطريقة”.
وبحلول الانقلاب الفاشل عام 1965 وعمليات القتل الجماعي التي تبعتها، كان كونغو وأصدقاؤه قد أصبحوا مجرمين محترفين. كما أنهم كانوا معادين للشيوعية.
وخطط الجيش للمجازر، لكن نفذتها عصابات وميليشيات يمينية. وجند الجيش عصابة كونغو، ليستجوبوا ويعذبوا ويقتلوا المئات ممن يشك في انتمائهم لليسار.
وعُرفت عصابتهم باسم “كتيبة الضفدع”، وأصبحت واحدة من أعنف كتائب القتل في المنطقة. وأصبح كونغو العضو الأبرز كونه من نفذ عمليات القتل.
واستوحت المجموعة أساليب القتل من أفلام هوليوود، خاصة أفلام المافيا التي قدمها آل باتشينو وجون وين.
ويُعتقد أن كونغو قتل المئات بيديه. وفي فيلم “قانون القتل”، ذكر حاكم شمال سومطرة سيامسول أريفين أن كونغو كان مرهوب الجانب بشدة آنذاك. “كان الكل يخشاه. وشعر الناس بالخوف لمجرد سماع اسمه”.
كما أدت حملة العنف، التي ما زالت موضوعا حساسا في أندونيسيا، إلى سجن حوالي مئة ألف شخص بدون محاكمة لارتباطهم بالحزب الشيوعي.
ولم يحاسب كونغو وغيره من القتلة على جرائمهم. وأصبح قائدا في المجموعات المقاتلة الموالية للنظام في أندونيسيا، والتي حملت اسم “شباب بانكاسيلا”، وكانت تطورا لكتائب الإعدام.
وفي السنوات التي تلت المجزرة، عاد كونغو إلى حياته السابقة في عالم الجريمة في ميدان، حيث ساعدته سمعته كثيرا. وتورط في جرائم سرقة وعمليات تهريب وانشطة ابتزاز هائلة.
وفي تسعينيات القرن العشرين، كان مسؤول الأمن في أحد أكبر الملاهي الليلية في ميدان. لكن هذه الوظيفة كانت مجر غطاء لصفقات المخدرات التي كان يبرمها لصالح “شباب بانكاسيلا”. وحصل كونغو على الكثير من الألقاب الشرفية داخل المنظمة، وكان محل احتفاء كبير لدوره في المجازر التي وقعت في الستينيات.
وأصبح القتلة مثلا أعلى لملايين الشباب المسلحين، الذين تبنوا روايتهم الخاصة للتاريخ وظهروا فيها كأبطال.
وكانت بروديتا ساباريني من بين الطلبة الذين صدقوا هذه الرواية، “فقد تعلمنا أن الشيوعيين أشرار، ملحدون، خونة الأمة”.
وأضافت في حوارها مع بي بي سي: “لم نشكك في ما تعلمنا في المدارس. حتى عندما عرفنا حجم المجازر قلت لنفسي إن هؤلاء شيوعيون، ومن الجيد أنهم قتلوا”.
ولم يواجه كونغو حقيقة جرائمه وضميره إلا عندما تتبعه فريق عمل الفيلم.
وفي البداية، تباهى كونغو بجرائمه. وعندما قابله أوبينهايمر أول مرة عام 2005، مثل جرائمه بسعادة.
ويقول أوبينهايمر إن التباهي “غالبا كانت طريقته للتأكيد على أنه قام بفعل يستحق التفاخر. لكنه أظهر أمانة غير معتادة وانفتاحاً بشأن مشاعره، والألم الذي شعر به”.
وتتبع الفيلم حياة كونغو وأصدقائه الذين طُلب منهم إعادة تمثيل تجاربهم في القتل. وساهموا في كتابة الحوار، وقاموا بأداء أدوارهم بأنفسهم، وعرضوا ذكرياتهم بنفس طريقة أفلامهم المفضلة.
وكثيرا ما تندر الرجال حول قتل الصينيين. وفي البداية قال كونغو بفخر: “سنروي قصة ما فعلناه في شبابنا”. لكن العبء الناتج عن القيام بدور البطولة سرعان ما أظهر شعوره بتأنيب الضمير.
واعترف أنه يعاني من الكوابيس المتكررة وأكد: “أعاني من الأرق. ربما لأنني كنت أراقب الناس وهو يموتون بينما أخنقهم بالسلك
وفي أحد المشاهد في نهاية الفيلم، لعب كونغو دور الضحية. وعندما تم لف السلك حول رقبته، طلب وقف التصوير، واعتدل في جلسته ولم يتحرك، وظل صامتا. وعندما شاهد المشهد لاحقا، قال والدمع يملأ عينيه: “هل أذنبت؟ أنا فعلت ذلك بأهلي”.
ويقول أوبينهايمر إنه عند مرحلة ما من تصوير الفيلم “ظهر شعور كونغو بالذنب بطريقة مباشرة وواضحة. وأعتقد أن هذه هي رسالة يقدمها الفيلم، وهو أننا كبشر قد ندمر أنفسنا بأفعالنا”.
لم تحظ قصة كونغو بشعبية في هوليوود. تزوج متأخرا ولم ينجب أطفالاً، واستمر في حياة الجريمة بعد عرض الفيلم. لكن فيلم “قانون القتل” كان له أثر كبير على حياة الكثير من الأندونيسيين الذين شاهدوه.
ومُنع الفيلم رسميا في البلاد، لكن نُظمت عروض سرية، وتعرض بعضها لهجوم عنيف من قبل المجموعات الموالية للجيش.
وتقول ربيكا هينشكي، محررة بي بي سي لشؤون إندونيسيا سابقا، إنها “حضرت واحداً من أكبر العروض السرية. وكانت القاعة ممتلئة عن آخرها، والأجواء أشبه بحفل روك، وساد شعور بأنه ثمة حائط على وشك الانهيار”.
كما قالت ساباريني، التي أُجبرت في المدرسة على مشاهدة فيلم يمجد الرواية الرسمية للأحداث، إن “قانون القتل” غير وجهة نظرها تماما.
وقالت: “عندما شاهدت الفيلم، ورأيت تباهي القتلة بما فعلوه، هالني مدى السقوط الأخلاقي، وشعرت بخزي شديد بأنني لم أفكر في هذا الأمر من قبل. شعرت بالعار لأنني لم أفكر بشكل نقدي سابقاً”.
وتابعت: “أريد أن تبدأ البلاد بعملية كشف الحقائق ليتحقق شيء من العدالة”.
واستاء بعض الناجين من المجزرة من قرار أوبينهايمر بإعطاء القتلة، مثل كونغو، مساحة كاملة في الفيلم. وأنتج لاحقا فيلم حمل اسم “نظرة الصمت” ركز على قصص الضحايا.
رأى آخرون أن الفيلم نشر الوعي بجرائم هؤلاء القتلة. وقال السجين السياسي السابق، بيدجو أونتونغ، لـ بي بي سي إن “قانون القتل” كشف “عمليات القتل البشعة اللانسانية على يد أشخاص أمثال أنور كونغو، ممن دعموا الجيش”.
وأضاف: “الأمر محبط أن يموت شخص مثله قبل أن يواجه العدالة”.
وختم أوبينهايمر حديثة بقوله: “ربما كان لكونغو أثر إيجابي غير مقصود بظهوره في الفيلم. حتى ولو لم يكن ذلك قصده، إلا أنه ساعد في إحداث صحوة داخل إندونيسيا”.
“فقد ساهم في إحداث نقلة في الوعي الوطني. وساعد العالم في رؤية المجازر التي حدثت”.