الاقتصاديون متخوفون على عكس أسواق المال والمستهلكين
تتجه أجواء وتقديرات المعاهد الاقتصادية الألمانية والأوروبية وخبراؤها، وكذلك تقديرات رجال الأعمال ومؤسسات اقتصادية أخرى، إلى توقع المزيد من المسبّبات الداخلية والخارجية الدافعة نحو تراجع النمو في ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي في الفترة المقبلة. وبرز ذلك في نتائج استطلاعات وتحاليل خبراء معهدي بحوث الاقتصاد الألمانيين Ifo في ميونيخ ومركز البحوث الأوروبية ZEW في مانهايم الهامين فيما خفّف المعهد الألماني لبحوث الاقتصاد DIW الهام بدوره في برلين من وطأة التخوفات. ولا يزال القلق كبيراً من نتائج النزاع التجاري الدولي الحاصل بين الولايات المتحدة وعدد من دول العالم مثل الصين، ومن المخاطر الكبيرة التي يمكن أن تترتب على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق منظّم، والتوترات القائمة حالياً بين الولايات المتحدة وإيران.
وذكر معهد “إيفو” في تقريره الصادر أواخر شهر يونيو الفائت أن أجواء الشركات والمصانع الألمانية التسعة آلاف في البلاد للأشهر الستة المقبلة، والتي يشملها الاستطلاع، هبطت سلباً في شهر يونيو إلى الحد الذي كان قد سُجّل في شهر نوفمبر من العام 2014، أي إلى 97,4 نقطة، علماً أن غالبية هذه الشركات لا تزال مطمئنة إلى أوضاعها في المرحلة الراهنة. وتوقع رئيس المعهد Clemens Fuest أن يتراجع معدل النمو الاقتصادي الألماني في الربع الثاني من العام الجاري بعد النمو الذي حققه بمقدار 0,4 في المئة في الربع الأول، مشيراً إلى أنه لا يتوقع استناداً إلى النتائج حصول أزمة اقتصادية حادة حالياّ في البلاد. وأظهر المركز الأوروبي للبحوث الاقتصادية في مانهايم ZEW الذي يستطلع شهرياً آراء ما بين 200 و300 خبير اقتصادي ومالي نتائج سلبية مماثلة لمعهد” إيفو” عن شهر يونيو الماضي: أي ثبات اقتصادي حالي وتخوفات على المدى المتوسط. وقال رئيس المعهد Achim Wambach بدوره إن البلبلة لدى الاقتصاديين وخبراء المال زادت في المرحلة الأخيرة “بفعل الوضع المستقبلي للاقتصاد العالمي وبدء مرحلة سيئة من النمو السلبي في ألمانيا في الربع الثاني من العام الجاري”.
أما المعهد الألماني لبحوث الاقتصاد DIW في برلين فذكر أن مؤشره للنمو لا يزال يسجل 99 نقطة من أصل مئة نقطة تشير إلى تحسن وسطي للنمو في البلاد، وتوقع أن يسجل معدل النمو في ألمانيا في الربع الثاني 0,25 نقطة زيادة على معدل النمو في الربع الأول المذكور أعلاه. وقال رئيس قسم النمو في المعهد Claus Michelsen إن الناتج الاقتصادي حالياً ينمو بوتيرة أقل من السابق، لكنه وجد أن وتيرته هذه بعد فورة مطلع السنة لا تزال جيدة أيضاً”. وأعرب مصرف ألمانيا الاتحادي في بيان له أخيراً أنه ينتظر تسجيل “تراجع طفيف” في ناتج ألمانيا الاقتصادي في الربع الثاني من هذا العام، مشيراً إلى أن السبب يكمن في استمرار ضعف حركة النمو الحاصلة في البلاد.
وبالرغم من تحذيرات تراجع النمو لا تزال أسواق المال في ألمانيا وأوروبا غير متأثرة بها على الإطلاق، ولم تدبّ الصرخة فيها حتى هذه اللحظة، خاصة وأن رئيس البنك المركزي الأوروبي Mario Draghi أكد للأوساط المالية في أوروبا أنه سيؤمن السيولة المطلوبة لجميع دول اليورو في حال تعرض النمو الاقتصادي في القارة الأوروبية إلى اهتزاز ما. وعقب التصريح هذا ارتفع مؤشر Dax الألماني كما ارتفعت مؤشرات البورصات الأوروبية بقوة وهبط اليورو إلى 1,12 دولار. وبموازاة أسواق المال لم يدبّ الخوف في نفوس المستهلكين الأوروبيين وبقيت شهيتهم قوية على الشراء والاستهلاك، على الأقل في ألمانيا، وعلى صرف المزيد من المال بدلاً من ادخاره، ما يدلّ بحسب المراقبين على وجود شعور بالاستقرار وانعدام الخوف من فقدان العمل، وتوقع استمرار الحصول على زيادات جديدة على الأجور والمعاشات.
ومن جهته ذكر مركز بحوث الاستهلاك GfK في نورنبرغ بعد اجراء استطلاع مع ألفي مستهلك “أن حجم الاستهلاك في البلاد باقٍ على حاله، وأن أجواء المستهلكين تبدّلت بصورة طفيفة جداً”. ورأى أنه رغم تراجع توقعات النمو منذ شهر مايو الفائت، إلا أن غالبية المستطلَعين ذكرت أنها لا تزال متفائلة بمتانة وضعها ووضع عملها وأجرها أكثر من الشهر السابق، “الأمر الذي يُعتبر خبراً إيجابياً مقارنة بالتطورات السلبية القائمة”. وقال المركز إن الاستطلاع هذا “أمر هام لكون الاستهلاك الخاص عاملاً اقتصادياً هاماً في السوق الداخلية”، مضيفاً أنه يتوقع أن يسجل العام الجاري زيادة في الاستهلاك الداخلي بمقدار 1,5 في المئة.
البطالة تنخفض أقل من السابق في ألمانيا، بفعل ضعف النمو
انخفضت البطالة في ألمانيا في شهر يونيو الفائت بمقدار 20 ألف شخص فقط عن شهر مايو الذي سبقه وبمقدار 60 ألفاً عن الشهر ذاته من العام 2018. وقالت وكالة العمل الاتحادية BA إن العدد هذا أقل بكثير مما كان يسجّل في الشهر المذكور خلال السنوات الماضية. وأعادت الوكالة السبب الأول إلى ضعف النمو الحاصل في الاقتصاد الألماني ككل خلال الأشهر الأخيرة، والإشارات المتزايدة عن أن مرحلة النمو القوية وصلت إلى نهايتها كما توقعه العديد من خبراء الاقتصاد والاقتصاديين في البلاد ودلّت عليه مؤشرات النمو الصادرة عن معاهد البحوث الاقتصادية في البلاد وخارجها. وبالأرقام تراجع عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا إلى 2,216 مليون شخص وبقي معدل البطالة في البلاد 4,9 في المئة دون أي تغيير.
وذكرت الوكالة أن عدد الذين لا يعملون حالياً في سوق العمل بسبب المرض أو بسبب المزيد من التأهيل المهني يبلغ 3,17 مليون شخص بزيادة 6000 عن الشهر السابق، إنما أقل بـ 62 ألفاً عن الشهر ذاته من العام المنصرم. مع ذلك ذكرت وكالة العمل أن التراجع الضئيل المشار إليه “مؤشر ملموس إلى ضعف الاقتصاد في المرحلة الحالية”. ولحظ رئيس وكالة العمل Detlef Scheele “أن ضعف النمو الجاري في الاقتصاد الألماني يترك آثاراً ولو طفيفة على سوق العمل في البلاد”. وتابع “أن عدد وظائف العمل الشاغرة في الشركات الألمانية تراجع بعض الشيء، إلا أن عددها لا يزال مرتفعاً”، وبحدود 798 ألفاً، ما يعني أن الطلب على الأيدي العاملة المؤهلة تأهلاً جيداً لا يزال عالياً. وارتفع مجمل العاملين في البلاد في شهر مايو إلى 45,28 مليون شخصاً، بزيادة 21 ألفاً عن شهر أبريل الذي سبقه، وبزيادة 462 ألفاً عن الشهر ذاته من العام الفائت.
على المستوى الأوروبي ذكرت المفوضية الأوروبية في تقرير سنوي حول “العمالة والتطور الاجتماعي في الاتحاد الأوروبي” صدر مطلع شهر يوليو الجاري أن عدد العاملين في دول الاتحاد ارتفع إلى رقم قياسي في الربع الأول من العام الجاري لم يُسجّل من قبل، وبلغ 240,7 مليون نسمة، بزيادة بلغت 2,8 مليون شخص عن الربع الأول من السنة الفائتة. وأضافت المفوضية أن معدل البطالة الاجمالية فيها انخفض الآن إلى أدنى مستوى له منذ عام 2001. وبفضل ذلك انخفضت نسبة البطالة العامة في دول الاتحاد إلى 6,3 في المئة في شهر مايو المنصرم، وهو المعدل الأدنى الذي يسجّل في الاتحاد منذ عام 2000. مع ذلك لن يتحقق هدف المفوضية الأوروبية في تأمين 75 في المئة من العمالة في مجمل الدول المنضوية إليه في العام 2020، ولو أن المتوقع ألا يكون الرقم بعيداً عنه، وهو يبلغ حالياً 73,5 في المئة.
وحدّد تقرير المفوضية الأوروبية حول العمالة النظرة إلى التحديات المنتظرة، والإمكانات المتاحة خلال السنوات القادمة، إن على صعيد العمل أو على صعيد التحول المناخي الحاصل في العالم والعلاقة بينهما. وذكر التقرير أن تنفيذ قرارات مؤتمر باريس حول المناخ سيؤمن حتى عام 2030 أكثر من مليون فرصة عمل في هذا المجال. ويحدد البرنامج الموضوع هدف السعي إلى منع ارتفاع حرارة الأرض إلى أكثر من درجتين مئويتين. صحيح أن التحول سيقضي على فرص العمل في قطاع الفحم الحجري وما شابهه، إلا أنه سيؤمن في المقابل فرص عمل بديلة بمقدار أعلى ويضمن بيئة أفضل.
المانيا: أسعار العقارات ترتفع وبرلين تسعى لتجميد الايجارات
قدّم المكتب الاتحادي للإحصاء معطيات جديدة أخيراً حول أسعار العقارات في ألمانيا، مؤكداً أنها واصلت الارتفاع في الربع الأول من هذا العام بنسبة 5 في المئة مقارنة بعام 2018. وأضاف أنه منذ نهاية عام 2015 ارتفعت أسعار العقارات في عموم ألمانيا بنسبة 22 في المئة. وزادت نسبة الارتفاع في أسعار المساكن في أكبر سبع مدن على نحو حاد، ومثال على ذلك ارتفاع سعر المسكن الذي يتسع لعائلة واحدة أو عائلتين بنسبة 6,9 في المئة. والمدن السبع المعنية هي برلين، ميونيخ، هامبورغ، فرانكفورت، كولونيا، شتوتغارت ودسلدورف. ولم ترتفع أسعار المساكن على هذا المنوال في المناطق الريفية، وإنما زادت ايجارات الشقق هناك بنسبة 1,7 في المئة في الأماكن الكثيفة السكان، فيما ارتفعت بنسبة 4,5 في المئة للمنازل.
وتشهد أسعار العقارات في ألمانيا ارتفاعاً منذ نحو عشرة أعوام بسبب تدني أسعار الفائدة والحالة الاقتصادية الجيدة، إضافة إلى الهجرة القوية، ولاسيما إلى المدن. وكان البنك المركزي الألماني قد حذّر مراراً من ارتفاع أسعار الشقق والمنازل في المدن إلى نسب تصل إلى 30 في المئة. وتقف ألمانيا في مرتبة وسطية بين الدول الأوروبية فيما يخص تملك مواطنيها لأمكنة سكنهم، وذلك لأن الإيجارات أو أسعار العقارات لم تكن عالية حتى العشرين سنة الماضية. لكن مع تزايد الطلب على الملكية بدأت الأسعار في الارتفاع أكثر فأكثر، خاصة بعد أن أصبح العرض أقل من الطلب. ووصل الأمر إلى حد نزول الآلاف من السكان في برلين وفي عدد آخر من المدن الألمانية إلى الشوارع للمطالبة بأسعار معقولة للإيجار أو للعقار السكني، لكن أمراً مثل ذلك لم يحصل، بل على العكس واصلت الأسعار ارتفاعها، ما دفع بحكومة ولاية برلين إلى التهديد خلال شهر يونيو الفائت بتطبيق قانون محلي يسمح بتأميم قطاع ما إن كان ذلك يصبّ في المصلحة العامة.
وطالب التماس شعبي قُدّم إلى المسؤولين بنزع ملكية الشركات التي تمتلك أكثر من 3 آلاف منزل، عبر قيام حكومة ولاية برلين المحلية بشرائها منها عنوة بأسعار معقولة. ويستهدف الطلب هذا أيضاً مجموعة Deutsche Wohnen للإسكان على وجه التحديد التي تملك نحو 112 ألف منزل في برلين. وتواجه المجموعة أعلاه الكثير من الانتقادات على خلفية تعاملاتها السلبية مع المستأجرين كما يقول هؤلاء. وبحسب تقديرات حكومة برلين المحلية ستضطر الولاية إلى إنفاق نحو 30 مليار يورو في حال استجابتها للالتماس الشعبي وقيامها بشراء منازل من نحو عشر شركات تملك نحو 240 ألف منزل. وتتحمل الولاية حالياً ديوناً تبلغ قيمتها نحو 60 مليار يورو. وأمام أصحاب المبادرة مهلة ستة أشهر لجمع الحدّ الأدنى من التوقيعات المطلوبة لقبول الالتماس، أي 20 ألف توقيع. وتجدر الإشارة إلى أن الالتماس الشعبي ليس ملزماً للحكومة المحلية في ولاية برلين، انما يتعلق فقط بالمطالبة بسنّ قانون لنزع ملكية شركات العقارات.
وتدخّلت الحكومة الاتحادية بشخص المستشارة Angela Merkel التي رفضت الأمر وأعربت في كلمة لها أمام البرلمان الاتحادي عن معارضتها على نحو قاطع لمطالبة بعض الساسة والنشطاء بمصادرة شركات الإسكان الكبيرة كوسيلة لمواجهة ارتفاع أسعار الإيجارات وأزمة السكن. وقالت ميركل في كلمة لها “إن هذا الطريق خاطئ تماما”، وأكدت في المقابل على “ضرورة اتخاذ المزيد من الإجراءات المحددة في الإعمار السكني”. كما طالبت ببحث سبل للتعامل مع أراضٍ للبناء غير مستغلة بعد، ومراجعة نسب الزيادة العالية على الإيجارات. وأعربت كذلك عن رضاها عن معارضة شريكها في الائتلاف الحاكم، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، فكرة نزع ملكية شركات الإسكان. وكان آلاف من الأشخاص احتشدوا أخيراً في العاصمة الألمانية برلين وعدة مدن ألمانية أخرى للاحتجاج على ارتفاع أسعار الإيجارات. خلال ذلك قررت حكومة ولاية برلين أواسط شهر يونيو الفائت العمل على اصدار قانون يجمّد رفع الإيجارات في العاصمة لمدة خمس سنوات ابتداء من عام 2020 المقبل. ويطال هذا القرار نحو 1,6 مليون شقة ومنزل في العاصمة، علماً أن باب الطعن في القرار قضائياً مضمون لمن يريد خلال الأشهر الستة المقبلة.
الاستثمارات الأجنبية في المانيا تنخفض بسبب الرسوم والكلفة
ذكر مراقبون ألمان أخيراً أن موقع ألمانيا الاستثماري سجّل تراجعاً ملموساً في مجال جذب المستثمرين الأجانب إليه، وأن سبب ذلك الرسوم المفروضة على عمليات شراء الشركات الألمانية أو حصص فيها، وكذلك الكلفة العالية التي على المشتري الأجنبي دفعها للوصول إلى مبتغاه. وبحسب استطلاع نفذته مؤسسة الاستشارات والبحوث الأميركية Ernst & Young (EY) مع إدارات الشركات على المستوى الأوروبي تبيّن أن موقع ألمانيا الاستثماري بدأ يفقد بوضوح مقداراً غير قليل من جاذبيته ظهر في تراجع رتبته التي كانت متقدّمة على دول أوروبية أخرى. وتحدّثت المؤسسة أعلاه عن ” إشارة تحذير” موجهة من المستثمرين الأجانب إلى ألمانيا وشركاتها من خلال تراجع الاستثمارات الأجنبية فيها. وأضافت المؤسسة أن عدد الشركات الألمانية التي بيعت العام الماضي 2018 إلى مستثمرين أجانب انخفض إلى 973 شركة بتراجع بلغ 13 في المئة، مضيفة أنه التراجع الأول الذي يسجّل منذ أن بدأت المؤسسة عملها في هذا المجال في ألمانيا عام 2005.
وعقّب مدير مؤسسة الاستشارات أعلاه Hubert Barth على نتيجة الاستطلاع بالقول إنها “تعكس واقع أن ألمانيا لم تعد محرّك النمو داخل الاقتصاد الأوروبي، وان المطلوب بإلحاح الآن تطوير دينامية جديدة ودفع جديد للنمو”. وأضاف: “من الصحيح أن ألمانيا تحصل من المستثمرين فيها على علامة جيدة بسبب استقرارها السياسي والاعتماد على كلمتها، إلا أن وجود نظام ضريبي قادر على المنافسة، وانفتاح سياسي واقتصادي وتكنولوجي أوسع عوامل مهمة أيضاً”. وتابع أن المانيا تحتاج إلى تجديد ذاتها في هذه المجالات، وعلى إظهار قدراتها في مجالات البنى التحتية، والاستقرار السياسي والقانوني فيها، والاختصاصات التي يتمتع بها أبناؤها. أما نقاط الضعف فيها التي يلمسها المستثمرون فتتمثل في عدم مرونة قانون العمل، وفي قضايا الرسوم المفروضة والتسهيلات المطلوبة من جانب المستثمرين، وكذلك في كلفة العمل. وفي هذه المجال تبدو بريطانيا أكثر جاذبية من ألمانيا.
وأعرب أكثر من ثلث ممثلي الشركات الأجنبية العاملين في ألمانيا في استطلاع معهم عن عدم رضاهم إزاء المسائل المذكورة أعلاه مقابل ربع العدد قبل ذلك بعام واحد. وانعكس انعدام الرضى هذا تراجعاً في أعداد الشركات الألمانية المشتراة من المستثمرين الدوليين خلال العام الفائت، ما جعل ألمانيا تتراجع من المرتبة الثانية بعد بريطانيا إلى المرتبة الثالثة في أوروبا وأصبحت خلف فرنسا. وذكرت مؤسسة الاستشارات EY أعلاه أن أهم المستثمرين في ألمانيا عام 2018 كانوا ولا يزالون من الولايات المتحدة اشتروا 220 شركة ألمانية، أتى بعدهم في المرتبة الثانية مستثمرون من سويسرا والصين وبريطانيا على التوالي، علماً أن الاستثمارات البريطانية انخفضت بدورها بنسبة 13 في المئة. واجمالاً تراجعت نسبة الاستثمارات في أوروبا ككل نحو 4 في المئة عن عام 2017. في المقابل طالت الاستثمارات الألمانية في العالم العام 2018 نحو 700 شركة، منها 187 في فرنسا، و71 في بريطانيا بتراجع بلغ نحو 33 في المئة عن عام 2017، و54 شركة في بولندا. وفي أوروبا حلّت الاستثمارات الألمانية في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، وفي حين أمنت الاستثمارات الأميركية العمل لـ 73 ألف شخص في أوروبا أمنت الاستثمارات الألمانية العمل لـ 57 ألفاً والصين لـ 16 الفاً.
هذا ويخصص الصينيون مقداراً أكبر من المال لشراء شركات ألمانية لكونها مرغوبة جداً منهم. وتبعاً لدراسة وضعها معهد Merics الألماني وشركة الاستشارات الأميركية Rhodium Group فقد صرف رجال الأعمال الصينيون أموالا أكثر العام الماضي بلغت 2,1 مليار يورو لشراء شركات ألمانية أو أسهم فيها، بزيادة بلغت 400 مليون يورو، في الوقت الذي تراجعت استثماراتهم في دول الاتحاد الأوروبي الـ 28 إلى 17,3 مليار يورو. وأعادت الدراسة الأسباب إلى تدابير الرقابة الشديدة من قبل السلطات الصينية على نقل الأموال إلى خارج البلاد إلى جانب ظهور نقص في السيولة المالية داخل البلاد. وهناك عامل آخر يتمثّل في قيام أوروبا أخيراً بوضع قيود أكثر تشدداً على الاستثمارات الصينية، خاصة في القطاعات الحساسة والاستراتيجية. مع ذلك تتوقع الدراسة أن ترتفع الاستثمارات الصينية في أوروبا بفعل النزاع التجاري الحاصل حالياً بين الولايات المتحدة والصين.
رغم التقدم لا تزال الفوارق بين شرق ألمانيا وغربها كبيرة
بعد مرور ثلاثين سنة على الوحدة الألمانية لا يزال السعي مستمراً لإزالة الفوارق القائمة في الاقتصاد والمعيشة والبنى التحتية والرواتب بين شرق البلاد وغربها، بل ثمة من يقول إن الشرق المتأخر والضعيف بنيوياً لن يتمكن أبداً من اللحاق بغرب البلاد المتطور لأسباب موضوعية وعملية أكثر منها ذاتية. مع ذلك ثمة مجالات يبزّ فيها الشرق الغرب، مثل دور المرأة في المجتمع. وعلى سبيل المثال منذ سنوات عدة والحكومة الألمانية تسعى بكل طاقتها لتحقيق قرار تمثيل المرأة بنسبة 30 في المئة من مقاعد مجالس إداراتها، إنما دون جدوى على عكس شرق البلاد. فقد أظهر استطلاع أجراه أخيراً معهد سوق العمل وبحوث المهن IAB مع إدارات 15 ألف شركة ومصنع في البلاد أن تمثيل المرأة في المؤسسات الاقتصادية في شرق البلاد أعلى منه في غربها. وبالأرقام فان تمثيل المرأة في المراكز الرئيسية فيها يبلغ 31 في المئة في شرق البلاد مقابل 25 في المئة في غربها. وبالنسبة إلى تمثيل المرأة في المراكز الثانوية بلغت النسبة 46 في المئة في الشرق مقابل 40 في المئة في الغرب.
وأحد الأسباب الرئيسة لذلك أن المرأة في الدول الاشتراكية السابقة دخلت سوق العمل فيما كانت زميلاتها في غرب ألمانيا قابعة في منازلها. وينطبق ذلك على قطاعات حياتية أخرى أيضاً. وقال مفوض الحكومة الألمانية لشرق البلاد Christian Hirte إن عمل المرأة في الشرق كان دائماً أمراً مفروغاً منه، ومن النادر أن يعمل الرجل المتزوج لوحده لإعالة العائلة، مضيفاً أن شرق ألمانيا متقدم أيضاً على غربها في موضوع رعاية الأطفال في حدائق الأطفال المنتشرة فيه بكثرة، والتي تؤمن أمكنة للأطفال أكثر مما هو عليه في غرب البلاد. كما أن معاشات المرأة في شرق ألمانيا قبل الوحدة كانت توازي معاشات الرجل في الرتبة ذاتها، ولا تقل عنه كما هو الأمر في ألمانيا الموحدة حتى اليوم.
لكن ما يعانيه شرق البلاد بدرجة أولى هو انعدام وجود بنية صناعية واقتصادية فيه بعد إغلاق معظم المصانع والشركات التي كانت قائمة في العهد الاشتراكي بسبب عدم قدرتها على المنافسة في السوق الرأسمالية، ما رفع البطالة بصورة عالية من جهة، وأدى إلى هجرة الأيدي العاملة من الشرق إلى الغرب من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك أن الحكومة الألمانية أقرت بعد الوحدة معدل معاشات للشرقيين يقلّ بوضوح عن معاشات الغربيين ووعدت بأن يرتفع مع تحسّن الناتج الاقتصادي في الشرق ليتساوى مع الغرب بصورة تدرّجية. وأصدر معهد Leibniz لبحوث الاقتصاد IWH في مدينة هاله في شهر مارس الفائت تقريراً دورياً جديداً عن الموضوع ذكر من جديد أن الناتج الاقتصادي في شرق البلاد لا يزال متأخراً عن ناتج غرب ألمانيا، وأن معدله وصل إلى 82 في المئة بعد مرور ثلاثة عقود على الوحدة.
وذكر التقرير أعلاه أن القسم الشرقي من البلاد لا يزال خالياً من تجمعات صناعية هامة وفاعلة، وأن معدل الإنتاجية الأعلى فيه لا يضاهي إنتاجية الولاية الغربية الأضعف، أي ولاية السار الصغيرة Saarland الواقعة على الحدود مع فرنسا. وتنقص إنتاجية الشركات والمصانع الشرقية بنسبة 20 في المئة عن مثيلاتها الغربية، وهو فارق كبير ينعكس على أجور العاملين فيها. ففي حين يتلقى العامل الشرقي وسطياً 2790 يورو شهرياً يتلقى زميله الغربي 3340 يورو. ويعادل الفارق حالياً 84 في المئة من أجر الغربي مقابل 81 في المئة في عام 2017. وانتقد رئيس المعهد أعلاه Reint Gropp الدعم بمليارات اليورو الذي تقدمه حكومات الولايات الشرقية كمساعدات للشركات والمصانع فيها للحفاظ على أمكنة عمل غير نافعة اقتصادياً. واعتبر أن سياسة الهدر المالي هذه تعطي نتائج سلبية في آخر المطاف ولن تساعد على تحسين نوعية الإنتاج لتعزيز المنافسة الداخلية والخارجية، ولهذا السبب سيبقى شرق البلاد أقل إنتاجية من غربها.