الطبابة العسكرية….
الطبابة العسكرية
تزداد الأزمات التي تعصف بحياة اللبنانيين تفاقمًا يومًا بعد يوم، وكلما أملوا بأن تُفرج وجدوا أنفسهم يغرقون أكثر فأكثر في خندق الوضع الاقتصادي المُعتم. ومع عدم وجود أفق يلوّح بحل لهذه الأزمة في المستقبل المنظور، يحق لكل مواطن أن يسأل إلى أين نحن ذاهبون… وكذلك، يحق لكل عسكري أن يسأل عن حال الضمانة الوحيدة التي تبقيه صابرًا ومتأمّلًا، ألا وهي الطبابة العسكرية.
فأين هي الطبابة اليوم من هذه الأزمة المستمرة؟ ماذا تفعل لتصمد؟ وإلى متى ستتمكن من الصمود؟ أسئلة مشروعة يجيبنا عنها رئيس الطبابة العسكرية العميد الركن جورج يوسف مُطمئِنًا المستفيدين: قيادة الجيش تولي الطبابة الاهتمام المُطلق فاطمئنوا!
يستهلّ العميد الركن يوسف حديثه مؤكّدًا أنه على الرغم من الوضع الصعب الذي تمرّ به البلاد، والذي بطبيعة الحال ينعكس على المؤسسة العسكرية عمومًا والطبابة خصوصًا، إلا أنه ممنوع الاستسلام! فنحن نعمل على إيجاد الحلول بشكلٍ فوري لكل مشكلة تعترضنا، وذلك بدعمٍ مطلق من القيادة التي تؤمن أن الطبابة هي الركن الأساس للجهوزية العملانية.
… من دون أي مقابل
يمكن النظر إلى وضع الطبابة العسكرية حاليًّا من ناحيتَين:
على الصعيد الاستشفائي والعلاقة مع المستشفيات والمختبرات والمراكز الطبية المدنية: الوضع ممتاز والخدمات مؤمّنة. فالعنوان العريض والأساس لكل الجهود المبذولة في هذا الصدد هو «عدم استيفاء مبالغ مالية مقابل الخدمات الطبية»، وتحته تنضوي كل العناوين الفرعية الأخرى. أي أن الطبابة العسكرية هي الجهة الضامنة الوحيدة التي يحصل مستفيدوها على كل ما يحتاجونه من دون دفع أي فروقات، فإذا كانت الحالة الطبية تستوجب تحويل المريض إلى مركز خارجي (مستشفى جامعي أو حتى خارج البلاد)، يحصل على اللازم مهما كانت كلفته. ولكن ممنوع الهدر، ففي الحالات الخاصة التي يختار فيها المريض صاحب العلاقة الاستفادة من أمور إضافية غير ضرورية، يتحمل هو الفارق.
المشكلة الوحيدة
على صعيد الأدوية والمستلزمات الطبية: نقص الأدوية هي المشكلة الوحيدة المرتبطة بالنظام العام، والتي تنعكس سلبًا على قدرة الطبابة العسكرية نظرًا لارتباطها بالنظام العام المعمول به في هذا المجال، فهناك أدوية كثيرة مفقودة في البلاد لأن الشركات في الخارج لم تعد تسلّم الكميات اللازمة، أو لم تعد تسلّم الأدوية أبدًا، بسبب عدم قدرة الوكلاء على استيرادها لأسباب عدة على رأسها سعر الصرف وعدم الاستقرار في موضوع الدعم وصعوبة التحويلات إلى الخارج. ورغم ذلك، لا تألُ الطبابة العسكرية جهدًا للتوصل إلى الحلول ومعالجة هذه المشكلة حتى يحصل مستفيدوها على أدويتهم، ولكن يجب إيجاد حلّ جذري لمسألة الأدوية على صعيد البلاد.
أما في ما خصّ الأدوية بشكل عام والمستلزمات الطبية، فقد أمّنت الطبابة مخزونًا جيّدًا منها في خطوة استباقية كان يجب أن تخدم مستفيديها حتى نهاية العام. ولكن مفاعيل الأزمة حتّمت تخصيص قسم من هذه الأدوية والمستلزمات للمستشفيات المدنية خدمةً للأعمال الطبية التي يخضع لها مستفيدوها في هذه المستشفيات، ما أدّى إلى نقص في هذا المخزون. ولكن الوضع في هذا السياق لا يزال جيّدًا جدًّا والطبابة على اتصال يومي بالشركات من خلال فريق يتابع هذه الأمور معها لتجنب أي نقص.
حتى متى؟
حتى متى ستتمكن الطبابة العسكرية من الصمود في وجه الأزمات المتتالية؟
من دون الدخول في تفاصيل الصعوبات التي تواجهها الطبابة من ارتفاع تعرفة الأعمال الطبية الخارجية (حين يتم تحويل المريض المستفيد من الطبابة العسكرية إلى المستشفيات الحكومية والخاصة والمختبرات والمراكز الطبية المدنية) بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار، ورفع الدعم، والقيود المفروضة على تحويل الأموال إلى الخارج وشراء الأدوية والمعدات الطبية…. كل هذه الصعوبات كانت منذ بداية الأزمة ولا تزال، لا بل عادت الأمور لتشهد تعقيدًا أكبر في الآونة الاخيرة.
ولكن رغم كل ذلك، تعمل رئاسة الطبابة على متابعة كل مشكلة طارئة، ساعة بساعة، وإيجاد الحلول اللازمة لضمان استمرارية تأمين الخدمات الطبية للمستفيدين. وهنا يشير العميد الركن يوسف إلى أن معظم الأعمال الطبية باتت متوافرة لمرضانا في المستشفى العسكري المركزي، أما تلك التي تحتاج إلى خدمات خارجية، فرئاسة الطبابة تتلقى كل شكاوى وطلبات المؤسسات الطبية المدنية المتعاقدة مع الجيش وتدرسها بدقة للتوصل إلى حلول منصفة للطرفَين. وهذا الأمر كافٍ ليزرع الثقة في نفوس المستفيدين بأن المسؤولين عن أمنهم الصحي ساهرون على الاستجابة لأي طارئ.
وماذا تقولون للمرضى الذين يشتكون من تأخير عملياتهم أو تأجيلها؟
يعطي العميد الركن يوسف الحق لبعض هؤلاء المرضى الذين تُؤجَّل عملياتهم لفترة طويلة بسبب الضغط الكبير على المستشفى العسكري نظرًا لتضاعف عدد المرضى وخصوصًا عقب الأزمة. ولكن هذا الأمر يتم وفق آلية مدروسة، إذ يكشف طبيب مختص على وضع المريض ويصنّف وضعه (عادي، مستعجل، طارئ، فوري…) ويحدّد موعده على بطاقة الدخول وفق ذلك، شرط عدم تعريض المريض إلى تفاقم وضعه الصحي وتشكيل خطر على حياته. ويتم تحويل بعض هذه العمليات إلى الخارج إن تتطلب الأمر، ولكن المشكلة هي أن معظم هذه العمليات باتت الآن مكلفة جدًّا، لذا يتم انتقاء الطارئ منها لتحويله.
الوضع المادي والمرحلة المرتقبة
أما على الصعيد المادي، فما زالت الموازنات والسلفات المخصصة للطبابة العسكرية كما هي، ولكن يُعمل حاليًّا على زيادة هذه الموازنة للحفاظ على نسبة كسر قليلة (حين لا تكفي الموازنة) أو الوصول إلى مرحلة خالية من الكسور. وإلى حين التوصل إلى هذه المرحلة، يتم تعويض هذه الكسور من خلال رفع الحاجات إلى القيادة، والتي تعمل أجهزتها المتخصصة على تأمينها. هذا بالإضافة إلى الدعم الذي تقدّمه الجهات الداعمة للمؤسسة العسكرية من هبات ومساعدات يُحوَّل معظمها لمصلحة الطبابة.
أما بالنسبة للمرحلة المرتقبة، فيتم الآن استعراض كل المشاكل والصعوبات للعمل على حلها. ويشدّد العميد الركن يوسف على أن الطبابة العسكرية هي الجهة الضامنة الوحيدة في البلاد التي تستوفي كل المستحقات، ولذلك يُستقبل مرضاها من دون أي مشاكل في المستشفيات. ويدعو المستفيدين قائلًا: «فلنكن أوفياء للمؤسسة العسكرية التي لا توفّر أي جهد لتؤمّن لنا طبابة ممتازة، وهو أمر لا يُثمَّن. هلق مش وقت غنج… ما يمكن إجراؤه في المستشفى العسكري استفيدوا منه، ومن يريد غير ذلك فليدفع الفرق»!
المستشفى العسكري المركزي… التطور «ماشي»
من ضمن حملة التطوير الشاملة التي قادتها الطبابة العسكرية، شهد المستشفى العسكري المركزي نهضةً غير مسبوقة في السنوات الأخيرة الماضية على مختلف المستويات، من خلال مشاريع أُنجزت تباعًا وأخرى قيد الإنجاز. ولكن التحوّل الأعظم هو في التمكن من إجراء معظم العمليات النوعية والكبيرة والمتخصصة في غرفها المُستحدثة والمجهزة بآخر التقنيات، أسوةً بالمستشفيات الجامعية الكبرى. هذا الأمر أتى استشرافًا للأزمة واستجابةً لها، يقول رئيس المستشفى العميـد الطبيب نسيم أبو ضاهر.
انطلقنا بهذه العمليات منذ إطلاق غرف العمليات الجديدة، ومع بدء تفاقم الأزمة في بداية العام ٢٠٢١. فركزنا على العمليات النوعية والدقيقة، والتي تتطلب الخبرة ويجريها أطباء مدنيون متخصصون بالتعاون مع أطبائنا الضباط، ومنها:
– عمليات استئصال الكلى، والبنكرياس، والمعدة، والكولون، والمريء (التي وتستغرق الأخيرة حوالى ١٢ ساعة وتستوجب حضور طاقم طبي متكامل)… والتي لا تُجرى سوى في مستشفيات جامعية ومجهزة.
– عمليات على شبكية العين، وهي عملية نوعية ومعقدة والأطباء المتخصصون الذين يجرونها في لبنان قلائل وأحدهم متعاقد مع الجيش ويجري هذه العملية في المستشفى.
– عملية القوقعة التي لا تُجرى سوى في عدد محدود من المستشفيات الجامعية، وهي مكلفة جدًّا وتتخطى ١٥ ألف دولار أميركي، وباتت بعض المستشفيات عاجزة عن إجراء مثل هذه العملية مع الوضع الاقتصادي المتردي.
– وفي ١٤ أيار ٢٠٢٢ باشرت المستشفى، وللمرة الأولى، إجراء عملية زرع جهاز محفّز كهربائي للمرضى الذين يعانون من داء الصرع ولا يتجاوبون مع العلاج التقليدي. كلفة هذا الجهاز تراوح ما بين ٢٥ و٢٧ ألف دولار أميركي.
وغيرها الكثير من العمليات المعقدة في مختلف الاختصاصات (كزراعة الورك والركبة الاصطناعية، واستئصال المصران، وبعض عمليات العين…) والتي أصبحت روتينية بالنسبة للمستشفى وأطبائه.
زرع الكِلى والعلاجات الكيميائية
يلفت العميد أبو ضاهر إلى تطوّر مذهل إضافي شهده المستشفى العسكري المركزي، فقد بات جاهزًا من الناحية التقنية ليصبح مركزًا معتمدًا من قبل وزارة الصحة لزراعة الكِلى، والتنسيق جارٍ مع الوزارة للاستحصال على ترخيص منها لإتمام هذا الإنجاز.
من جهة أخرى، يضم المستشفى أقسامًا استشفائية مهمة جدًّا تبذل مجهودًا مضاعفًا في هذه الفترة، والعلاج الكيميائي هو خير مثال على هذه الأقسام. ويشرح العميد أبو ضاهر: لدينا في هذا القسم حوالى ٢٠ سريرًا مع مرضى يتلقى قسم منهم علاجًا نهاريًّا ويغادرون، وقسم آخر يدخلون لتلقي العلاج والاستشفاء. ولتلبية كل الحاجات، ومعالجة الأغلبية الساحقة من هؤلاء المرضى، اضطررنا إلى فتح باب العلاج قبل الظهر وبعده، وفي حضور الأطباء المدنيين والضباط على مدار الساعة لتأمين العلاج. فهؤلاء المرضى لا يعانون من ظروف مرضهم فحسب، بل أيضًا من الظروف الاقتصادية الصعبة والنقص في معظم الأدوية في المستشفيات المدنية، في حين أن ٩٠ – ٩٥٪ منها متوافر لدينا وهو أمر نفخر به. وتزداد أعداد المرضى وتتضاعف معها الكلفة، ومع ذلك فإن الطبابة العسكرية بأجهزتها المعنية تعمل جاهدةً لتأمين هذه المستلزمات والأدوية.
ويرى العميد الطبيب نسيم أبو ضاهر في هذه الأزمة تحدٍّ وفرصة لإثبات جدارة الطاقم الطبي وثباته وقدرته على مضاعفة الجهود لمواجهة التحديات وتلبية احتياجات المرضى والمستفيدين. ويلفته أيضًا توجه معظم أطباء لبنان المتخصصين لمساعدة الطبابة وتطويرها، النابع من حبّهم لوطنهم وللمؤسسة العسكرية. ناهيك عن الأطباء في الخارج من أصل لبناني، الذين يتواصلون مع رئاسة الطبابة لإبلاغها بتواريخ زياراتهم إلى لبنان واستعدادهم لإجراء عمليات نوعية في المستشفى العسكري.
والخلاصة… نهج استشرافي، تطور مستمر ومقاربة سريعة تنتهجها الطبابة العسكرية لمعالجة كل المشاكل الطارئة، والهدف: ضمان الأمن الصحي لأبناء المؤسسة العسكرية. فلا تخافوا طبابتكم بألف خير!